لا تَعِدْ إن لم تتحقق بالوفاء !!
و إلا ففي الاعتذار سَعَةٌ
كثيراً ما يَعِدْ أحد المسلمين من أهل اليسار أحدَ أخوته بأمر يعتبره الواعد نافلةً من الأمر مسؤوليةً شرعيةً و تنفيذاً واقعياً ، و ذلك بأن يكون – مثلاً - مجردَ موكَّل من قبل غيره بالبحث عن المحتاجين ، و تقديم حقوقهم المالية المشروعة لهم ، أو قد يكون امرأً يبحث عن مجرد فقير يدفع إليه زكاة ماله المفروضة عليه ، فهو لا يهمه إلا التخلص من هذا المال المفروض عليه إخراجه ، ولذلك فكل فقير عنده – ولو ظناً – هو محلٌّ للزكاة ، و من هنا يظن أن لا تثريب عليه أن يَعِد من يشاء ، و يلتزم مع من يشاء .. ثم يخلف و يعتذر !!
لأنه قد يعتقد أن المهمَّ إخراجُ الواجب عليه ليس إلا ، هذا في ظن المعطي ... و ذلك رغم وعده .. و التزامه .. و جهله بالأولويات الشرعية في هذه المسألة من حيث الشخص المعطى ؛ و الظرف المحيط به ؛ و الحاجة الداعية إلى الأخذ !! .
أما في الطرف الآخر – طرف الموعود .. الفقير .. - فقد يكون ما قدم ذاك الغني من وعود سبباً مباشراً في دمار إنسان في آماله .. أو واقعه الاجتماعي و الأسري و الاقتصادي ..!! ناهيك عن الأبعاد النفسية التي قد تودي به ؛ فتقضي عليه بكل ما تعني هذه الكلمة من معاني وأبعادٍ عقدية ؛ ونفسية ؛ و اجتماعية ؛ و اقتصادية ؛ و حتى علمية .
وعلى سبيل المثال : فقد يكون الوعد ببيت يسكنه ذاك الفقير المسلم الموعود ، أو رأس مال يبني به ما يؤسس له عملاً دارّاً عليه ؛ يخرجه من دائرة الفقر و الحاجة إلى دائرة المساهمة في القضاء على ظاهرة الفقر في المجتمع المسلم .
.. و قد يكون الموعود شاباً مقبلاً على الزواج ، و عندها لا أظن أن أي كلمة يمكن أن تؤدي أو تعبر أو تدل على وقع الخُلْف في الوعد على ذاك الإنسان ، الذي كل ذنبه أنه وثق بأن واعده لا يخلف ميعاده ؛ لأن الإسلام ربَّى المسلمَ على الوفاء بالوعد مهما كلف صاحبه من مصاعب ؛ أو وقفت أمام تحقيقه من ويلات .. و هذا هو الأصل في المسلم ، و إلا فقد قال نبينا – صلى الله عليه و سلم - : " ثَمَّ أربعٌ ؛ من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر ، وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق " و في رواية : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " و في رواية : " … وإن صام وصلى و زعم أنه مسلم " .
قال الإمام النووي – رحمه الله – في شرحه على مسلم :
" باب بيان خصال المنافق قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر " وفى رواية : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان " هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكِلا من حيث إن هذه الخصال توجَد فى المسلم المصدِّق الذي ليس فيه شك !! وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدِّقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ، ولا هو منافق يخلد فى النار ، فإن أخوة يوسف - صلى الله عليه وسلم – جمعوا هذه الخصال ، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كلُّه !! وهذا الحديث ليس فيه – بحمد الله تعالى – إشكال ، ولكن اختلف العلماء فى معناه ؛ فالذي قاله المحققون و الأكثر ون – وهو الصحيح المختار - : أن معناه : إن هذه الخصال خصال نفاق ، وصاحبها شبيه بالمنافقين فى هذه الخصال ، ومتخلق بأخلاقهم ، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه ، وهذا المعنى موجود فى صاحب هذه الخصال ، ويكون نفاقه فى حق من حدَّثه و وعده و ائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس ، لا أنه منافق فى الإسلام ؛ فيظهره ؛ وهو يبطن الكفر !! ولم يُرِد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا أنه منافق نفاقَ الكفار المخلدين فى الدرك الأسفل من النار .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " كان منافقا خالصا " معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال ، قال بعض العلماء : وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه ، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه ، فهذا هو المختار فى معنى الحديث .
وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي - رضى الله عنه - معناه عن العلماء مطلقا ، فقال : إنما معنى هذا عند أهل العلم : نفاق العمل .
وقال جماعة من العلماء : المراد به المنافقون الذين كانوا فى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثوا بإيمانهم وكذبوا ، و ائتُمِنوا على دينهم فخانوا ، ووعدوا فى أمر الدين ونصره فأخلفوا ، وفجروا فى خصوماتهم . وهذا قول سعيد ابن جبير وعطاء بن أبى رباح ، و رجع إليه الحسن البصري - رحمه الله - بعد أن كان على خلافه ، و هو مَروىّ عن ابن عباس وابن عمر - رضى الله عنهم - ، و روياه أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال القاضي عياض - رحمه الله - : واليه مالَ كثيرٌ من أئمتنا .
حكى الخطابي - رحمه الله - قولاً آخر : أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يُخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق .
وحكى الخطابي - رحمه الله - أيضا عن بعضهم : أن الحديث ورد فى رجل بعينه ؛ منافقٍ ؛ وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يواجههم بصريح القول ؛ فيقول " : فلان منافق " ، وإنما كان يشير إشارة ، كقوله – صلى الله عليه وسلم - : " ما بال أقوام يفعلون كذا " والله أعلم .
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فى الرواية الأولى - : " أربع من كنّ فيه كان منافقا " ، وفى الرواية الأخرى : " آية المنافق ثلاثة .. " فلا منافاة بينهما ؛ فان الشيء الواحد قد تكون له علامات ؛ كلّ واحدة منهن تحصل بها صفته ، ثم قد تكون تلك العلامة شيئاً واحداً ، وقد تكون أشياء ، والله أعلم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا عاهد غدر " هو داخل فى قوله : " وإذا أؤتمن " وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإن خاصم فجر " أي : مال عن الحق وقال الباطل والكذب ، قال أهل اللغة : و أصل الفجور : الميل عن القصد ، و قوله - صلى الله عليه وسلم - : " آية المنافق " أي علامته ودلالته ، و قوله - صلى الله عليه وسلم - : " خلة وخصلة " هو بفتح الخاء فيهما ، وإحداهما بمعنى الأخرى … ا. هـ
و قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - في " الفتح " : ... قال القرطبي والنووي : حصل من مجموع الروايتين خمس خصال ، لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث ، والخيانة في الأمانة ، وزاد الأول الخلف في الوعد ، والثاني الغدر في المعاهدة ، والفجور في الخصومة .
ثم قال ابن حجر : قلت : و في رواية مسلم الثانية بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد ؛ كما في الأول ، فالحق أن بعض الرواة تصرف في لفظه ؛ لأن معناهما قد يتحد ، وعلى هذا فالمزيد خصلةٌ واحدة ؛ وهي الفجور في الخصومة ، والفجور الميل عن الحق والاحتيال في رده ، وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى ؛ و هي الكذب في الحديث ، و وجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبِّهٌ على ما عداها ، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث : القول ؛ والفعل ؛ والنية ، فنبّه على فساد القول بالكذب ؛ وعلى فساد الفعل بالخيانة ؛ و على فساد النية بالخلف ؛ لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارناً للوعد ، أما لو كان عازماً ؛ ثم عرض له مانع ، أو بدا له رأي فهذا لم توجد منه صورة النفاق - قاله الغزالي في " الأحياء " - ، و في الطبراني ما يشهد له ؛ ففيه من حديث سلمان : " إذا وعد و هو يحدث نفسه أنه يخلف " ، وكذا قال في باقي الخصال ، و إسناده لا بأس به ؛ ليس فيهم من أُجمع على تركه ، وهو عند أبي داود والترمذي ؛ من حديث زيد بن أرقم - مختصرا - بلفظ : " إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يفِ فلا إثم عليه " .
قوله : " إذا وعد " قال صاحب " المحكم " : يقال " وعدته خيرا ؛ و وعدته شراً " ؛ فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير : وعدته ، وفي الشر : أوعدته .
وحكى ابن الأعرابي في " نوادره " : أوعدته خيراً - بالهمزة - .
فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير ، وأما الشر فيستحب إخلافه ، وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة ، وأما الكذب في الحديث فحكى ابن التين عن مالك : أنه سئل عمن جرب عليه كذب ؟ فقال : أي نوع من الكذب ؟ لعله حدث عن عيش له سلف ؛ فبالغ في وصفه ؛ فهذا لا يضر ، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصداً الكذب ... انتهى .
ناهيك إذا استمر هذا الوعد ، ثم تأكد عبر التكرار و التأكيد المتتابع !!
و عندها أسأل الله وحده أن يكون نصيره في مثل تلك الظروف التي تكاد تعصف بكل جميل ؛ و نظيف ؛ و طاهر؛ و خيِّر في تصوره و مخيلته إن لم يتجاوز الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك , والأمر يعود إلى مقدار فقه العبودية في نفسه و قلبه ؛ و إلى إدراكه العميق الرشيد لطبيعة الإنسان ، و هذه وحدها هي العاصم له مما تضعه فيه ؛ برحمة من الله تعالى و لطفه لا غير .
و لذلك فإذا أردتَ أن تقدِّم مساعدة أو معروفاً أو خيراً لأحد فباشر بتنفيذ ما عزمت عليه ، ولا يكن منك أي وعد إن كان لديك أدنى شكٍّ أو ظن و لو بنسبة ( 1 % ) في إمكانية عدم قدرتك على الالتزام أو الوفاء بما وعدت ، و إن خرج منك وعدٌ في خطورةِ ما وصفتُ فكن على حذر من الخُلْف فيه ، لأنك لا و لن تدرك ما هي الآلام التي ستسببها لذاك الأخ المسلم ؛ الذي بنى آمالاً ؛ و خطط لأعمال قادمة ؛ ربط وجودها بما وعدته أنت به .
و قد يزداد الأمر تفاقماً فيما لو كان يشاركه في هذا الوعد – المأساة - زوجةٌ و أولادٌ لا ذنب لهم جميعهم في آلامهم التي سبّبـتَها لهم إلا أنهم وثقوا بإسلامك الذي بناك على عدم الخلف في الوعد
لأن النبي – صلى الله عليه و سلم – قد جعله ثلث النفاق أو ربعه – كما في روايتي الحديث الشريف – و خوفك من الله و حبك للتقرب إليه عن طريق جبر خواطر المكسورة خواطرهم ، و تفريج هموم من سلط الله عليه الفقر و الحاجة ابتلاءً منه -سبحانه – كما ابتلاك أنت - الغني القادر المنفق المعطي- بالمال و الغنى و الإعطاء .
و عوداً على بَدْءٍ :
فلا تَعِدْ إلا إن أيقنت و عزمتَ – عند الوعد – على الوفاء .
و إن بدا لك مانعٌ خارجٌ عن قدرتك فلا يكن منك تملص وهروب مع عدم مبالاة !! ... بل أنفق عليه من وجهك ، وساعده بما لديك من إخوان مؤمنين يخشون الله و اليوم الآخر ؛ فعسى أن يكون في ذلك عذر منك ؛ لا يجعل قلب أخيك و حياته يتأذيان منك .
إذا قلت في شيئٍ : " نعم " ؛ فأتمَّه - فإن " نعم " دَينٌ على الحُرِّ واجبُ
وإلا فقل : " لا " ؛ تسترحْ وتُرِحْ بها - لئلا يقول الناس : إنك كــــاذبُ
و لا تقدم على عمل قبل مراقبة ربك سبحانه و تعالى الممزوج بالحب والحياء ، والله يتولى هدايتنا جميعاً . كتبه / خالد طرطوسي